عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: مُرني بأمر آخذه عنك، فقال: (عليك بالصوم، فإنه لا مثل له). وهنا تتجلى بلاغة وعظمة قول النبي صلى الله عليه وسلم، في أن الصوم لا مثل له في المطلق. وهناك أنواعاً مختلفة من الصيام، لكننا بصدد الصوم الإسلامي الموقوت في شهر رمضان.
يقول العلامة ابن القيم رحمه اللَّه: للصيام أثر عجيب في أن يحفظ جوارح الإنسان الخارجية، ويحفظ قواه الداخلية، فهو يحفظ القلب وكل الجوارح، ويُرجعها كيوم ولدت، وسوف نأخذ في هذا المقال، جانباً واحداً وهو الجانب الطبي، وخاصة أثر الصيام على الجهاز المناعي للجسم.
تأثير الصيام على الجهاز المناعي للجسم
يُعد هذا النوع من الصيام المتقطع، نوعاً من أنواع الأيض المثالية، فهو يشمل عملية البناء وعملية الهدم ما بين وجبتي الإفطار والسحور. وكان حرص النبي العظيم على تناول وجبة السحور في وقت متأخر، والإفطار في وقت مبكر حتى تقل ساعات الصيام، ولذلك يصبح الصيام الإسلامي مثالياً، وليس حرماناً وتعذيباً للنفس. بل بالعكس فهو يرفع من كفاءة الجسم في القدرة على التحمل، كذلك قدرة أداء العضلات.
رأي العلماء في الصيام
يعتبر العلماء اليوم أن الصيام عملية حيوية فطرية يحتاجها الكائن الحي مع اختلاف نوعه، بل وأن عدم الصيام يعرض الإنسان أو الحيوان إلى خطر الإصابة بالعديد من الأمراض، حيث يرى ماك فادون، عالم الصحة الأمريكية إن حاجة الإنسان للصوم ضرورية حتى وإن لم يكن مريضاً. كما أن الطبيب السويسري المعروف، باسيلوس، يقول إن فوائد الصيام في علاج البشر، تتخطى قدرة وفائدة الأدوية بمراحل.
يقول الكسيس كاريل، صاحب جائزة نوبل في الطب، إن كثرة الطعام تجعل الخلايا مُعطلة عن أداء وظائف أكثر أهمية من هضم الطعام وفقط، وإن الصوم يعيد للخلايا نشاطها وحيويتها.
يتحدث الباحث هالبروك، إن الصوم ليس سحراً، لكنه ضمان لصحة جيدة، ويذكر دكتور ليك، أهمية أن يوفر الصوم للجسم كثير من الجهد والطاقة، التي كانت موجهة للهضم، ويُعيد توجيهها لما هو أكثر أهمية وله أولوية، مثل رفع المناعة والتئام الجروح.
يقول الصحفي توم برنز، إن الصوم عملية روحية عميقة، وأن تجربته مع الصوم بدأت كي ينقص وزنه وفقط، لكنه اكتشف فوائد كثيرة جداً أخرى، منها ماهو ملموس ومنها ماهو معنوي وغير محسوس.
أثر الصوم على الخلايا المناعية
تُشير الدراسات الحديثة إلى أن هناك دوراً كبيراً للصيام، ليس فقط في رفع مناعة الجسم، بل وفي تنشيط عملية تجديد الجهاز المناعي كله، كذلك يجعل الصيام الخلايا الجذعية التالفة، قادرة على تجديد نفسها مرة أخرى.
هذه الدراسات أُجريت في البداية على فئران التجارب، وسرعان ما أُجريت على حالات سريرية بشرية، ممن يتلقون علاجات كيميائية لعلاج السرطان، وكانت نتائجها مبهرة، حيث لوحظ مع انخفاض معدلات الغذاء، زيادة في قدرة الخلايا الجذعية التي تكون مسئولة عن إنتاج الدم بكل خلاياه، وبالتالي رفع قدرة الجهاز المناعي.
كما أشارت إحصائيات الدراسة إلى أنه في حالات الشيخوخة وتقدم العمر، يلجأ الجسم إلى استبدال الخلايا المناعية المتهالكة والمُسنة، بخلايا مناعية جديدة، ونشيطة، وقادرة على حماية الجسم من الأجسام الممرضة، وهذا على عكس المشاع من أن الصيام يضعف جهاز المناعة فيصبح عرضة لالتقاط مختلف أنواع العدوى.
اندهش الطبيب لونجو، في كلية الطب في جامعة كاليفورنيا، من نتائج تجارب الصيام على أولئك الذين يعانون من مناعة ذاتية ضعيفة، ومن وجهة نظره فإن السبب في هذه النتائج، هو قدرة الجسم على إعادة تدوير فضلاته ومن ضمنها الخلايا المناعية التالفة، وذلك بغرض تقليل الطاقة كرد فعل للجوع الذي تتعرض له الخلايا.
ما يحدث للجسد الجائع
يقع الجسد تحت تأثير الجوع إلى ضرورة حرق مخزن الطاقة من الكربوهيدرات والدهون. لكنه لا يتخلص فقط من الطاقة واستهلاكها في فترات الحرمان من المصادر الخارجية والقادمة مع تناول الغذاء، لكنه يتخلص أيضاً من جزء كبير من كريات الدم البيضاء.
اقرأ أيضاً: اضطرابات خلايا الدم البيضاء
مع مرور الوقت واستمرار الجسد في حالة الجوع، تزيد أعداد كريات الدم البيضاء المستنزفة، مما يمنح الخلايا الجذعية المناعية فرصة لتجديد نفسها. واكتشف لونجو ورفاقه أن الجوع يؤدي إلى الحد من إنتاج أنزيم مسئول عن إطالة عمر الخلايا، وهو السبب في تأخر عملية التجديد، بالإضافة إلى تقليل مستوى أحد الهرمونات الهامة والمسئولة عن عملية النمو، ولذا يحدث التقدم السريع في نمو وشيخوخة الخلايا، لتزداد سرعة المضاعفات الناجمة عن الأورام والسرطانات، لكن عند تجويع الخلايا يقف عمل هذا الأنزيم، مما يوقف كل تلك السلاسل من المضاعفات.
كذلك، أثبتت الدراسات أن الصيام لفترات تزيد عن يومين، يجعل الجسم وخلاياه قادرين على التخلص من السموم داخل هذه الخلايا، وذلك ما أوضحته نتائج التجربة السريرية لبعض المرضى الذين يتلقون علاجات كيماوية.
للمزيد: طرق طبيعية لتخليص الجسم من السموم
ومن الذين أشاروا إلى هذه العلاقة الأستاذة والطبيبة تانيا دورف، والتي لاحظت علاقة الصيام بالتخلص من السموم ورفع كفاءة الجهاز المناعي، حيث أوضحت قدرة المرضى على تلقّي العلاج الكيماوي وهم تحت تأثير الصيام لمدة ثلاثة أيام، بشكل أفضل، وآثاراً جانبية أقل للعلاجات الكيماوية.
وألمح الدكتور لونجو إلى توقعاته بأن الصيام لفترات سوف يكون له آثار صحية جيدة على كل وظائف الجسم، وليس فقط المناعة.
وفي مفاجأة جديدة، نشرت مجلة ميديكال نيوز توداي، أن الخلايا الجذعية المناعية استجابت تحت تأثير الجوع فقامت بتجديد نفسها، والتخلص من التالف منها، كذلك فإن التجارب وصلت في قارة أستراليا إلى أن ما حدث من تجديد للخلايا الجذعية، من الممكن أن يحدث لخلايا الدماغ التالفة.
طرق الصوم القديمة
في علوم الطب الصينية التقليدية القديمة، يوجد مفهوم جوع الخلايا، وذلك لأن عمليات هضم الغذاء، وعملية الأيض كلما كانت قصيرة، كلما استطاع الجسم إصلاح عيوب الخلايا، وإعادة ترميم التالف بها.
يتناول رهبان بوذا الطعام في ساعات الصباح فقط، وهذا يؤدي إلى صيام ضمني لمدة لا تقل عن خمسة عشر ساعة كاملة لا ينشغل الجسم والخلايا بالغذاء، وهضمه، وتمثيله الغذائي، كما أن السيخ في الهند يستخدمون طريقة الامتناع عن الطعام كعلاج للأمراض، وممارسة روحانية عن طريقها يتجدد شبابهم ونشاطهم.
اختيار طريقة الصوم المناسبة
هناك الكثير والكثير من الطرق التي يستطيع الفرد أن يجربها في حرمان الجسم من الغذاء، فعند الرغبة في إصلاح وتقوية الجهاز المناعي كله وبطريقة سريعة، يلجأ الأشخاص إلى وسائل متعددة للوصول لأهدافهم ومن هذه الطرق:
الصوم الاختياري أو الانتقائي
وفي هذا النوع امتناع عن تناول أكلات وأطعمة معينة لفترات محددة وفق جدول يحدد حجم السعرات الحرارية، وهي تشبه لحد كبير فكرة الحمية الغذائية التي يستخدمها الأفراد في علاج السمنة.
الصوم المائي
وفي هذا النوع يتوقف الفرد عن تناول الغذاء تماماً، ويعتمد على شرب الماء فقط، والماء في هذه الحالة لن يكون مصدر إشباع الجسد الجائع فقط، لكنه سيقوم بدور المنظف والمرشح للسموم من خلايا الجسد عامة وخلايا الجهاز الهضمي خاصة.
مع ما يتوقعه البعض من سهولة تطبيق هذا النوع من الصيام، لكن الواقع يكون على العكس تماماً، فهو من أصعب الأنواع في التطبيق، وذلك لغياب السعرات الحرارية نهائياً، لكنه يبقى مفيداً جداً في علاج الكثير من الآلام المزمنة، والالتهابات في المفاصل، والصداع النصفي أيضاً.
الصوم المتقطع
يخلط معظم الأفراد بين الصوم المتقطع ونظام الريجيم، لكن هناك فرق كبير، ففي الصوم المتقطع، يتناول الفرد السعرات الحرارية في أوقات محددة، ويمتنع في أوقات محددة، بينما في الأنظمة الغذائية، يتخطى الفرد وجبات بعينها، ويستهلك الأطعمة الصحية فقط وبكميات محددة سابقاً.
هذا البحث قام به العالم فالتر لونجو مع مجموعته البحثية من جامعة كاليفورنيا، حيث أنهم أجروا تجاربهم على الخميرة.
عندما تعرضت مزرعة الخميرة للجوع، أقدم أكثر من تسعين بالمائة من أفراد المستعمرة على الانتحار، وذلك بغرض توفير خلاياهم البروتينية كغذاء لباقي أفراد المستعمرة، وعلى ذلك فإن خلايا الجسم تكون قادرة على التخلص من التالف والمتهالك منها، وإعادة إنتاج خلايا جديدة قادرة على القيام بوظائفها على أفضل صورة.
العمل مع معدة خاوية
من الطرق المبتكرة، الصوم لمدة نصف يوم مثلاً، ثم القيام بممارسة تمارين رياضية أثناء هذا الانقطاع عن الغذاء، وبالتالي يكون هذا البرنامج مزيجاً رائعاً بين الصوم والرياضة، والفائدة هنا في إجبار الجسم على تكسير كميات السكريات والدهون بل وإعطاء فرصة لبناء عضلات نقية خالية من الدهون ومصنوعة فقط من البروتينات.
الصيام ليس مجاعة
لابد من التفرقة بين الصوم وبين الجوع، وقد ذكر مارتن بيرخان، أحد مستشاري التغذية في العالم، أن المجاعات ليست الامتناع عن تناول الطعام لفترات زمنية، ولو كانت ليوم كامل أو حتى لثلاثة أيام، وأن المجاعة تعني المجاعة حرفياً، أي عدم وجود مصادر للطعام لفترات طويلة.