يوجد ارتفاع ملحوظ في عدد النساء المصابات باكتئاب ما بعد الولادة، ونتيجة لذلك زادت الحاجة إلى صرف الأدوية المضادة للاكتئاب لهن. لكن في بعض الحالات، قد تصاب الأم بالقلق تجاه تأثير هذا الصنف من الأدوية على طفلها أثناء فترة الرضاعة، فتمتنع عن تناول الدواء خوفاً من أعراضه الجانبية، وبسبب رغبتها بأن ترضع طفلها لأطول فترة ممكنة. فهل من اللازم أن تتوقف الأم عن الرضاعة الطبيعية في حال تناولها للأدوية المضادة للاكتئاب؟
ما هو الأهم، الرضاعة الطبيعية أم حالة الأم النفسية؟
يوجد للرضاعة الطبيعية فوائد تعود على الطفل والأم سواء، فهي توفر للطفل غذاءه المتكامل خصوصاً في الأشهر الست الأولى من عمره، وتساهم أيضاً في تقوية مناعته عبر إمداده بالأجسام المضادة التي تمكنه من محاربة البكتيريا والفيروسات. أما بالنسبة للأم، فتعمل الرضاعة الطبيعية على تحفيز إفراز هرمون الأوكسيتوسين (بالإنجليزية: Oxytocin) الذي يحمل وظيفة تخفيف نزيف ما بعد الولادة و يساعد الرحم على العودة إلى حجمه السابق ما قبل الحمل، حيث أن حجم رحم المرأة يتضاعف بشكل طبيعي أثناء الحمل ليؤدي وظيفته في حمل الطفل. وأشارت دراسات عديدة أن الرضاعة الطبيعية يمكن أن تقي المرأة من الإصابة بسرطان الثدي وسرطان المبيض، إضافة إلى قائمة طويلة من الفوائد.
للمزيد اقرأ أيضاً: فوائد الرضاعة الطبيعية
ولكن عند إصابة الأم باكتئاب ما بعد الولادة (بالإنجليزية: Postpartum Depression) تنخفض رغبتها في العناية بطفلها وإرضاعه، وقد يصل ذلك إلى حد الإهمال. وقبل أن تتفاقم الحالة يجب المبادرة إلى إعطائها العلاج، الذي يكون في كثير من الأحيان بتناول الأدوية المضادة للاكتئاب. ومما يثير قلق الأمهات في هذه الحالة هو الخوف من انتقال المادة الدوائية عبر حليب الرضاعة إلى الطفل وما قد يتبع ذلك من آثار جانبية خطيرة. لذا نجد أن الأمهات المصابات باكتئاب ما بعد الحمل ينقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ قسم يرفضن العلاج الدوائي أو يؤجلنه، وقسم يمتنعن عن الرضاعة الطبيعية كلياً، وقسم يتناولن الدواء المضاد للاكتئاب ويرضعن معاً.
هل من الممكن أن تتناول الأم الأدوية المضادة للاكتئاب وأن ترضع طفلها في نفس الوقت؟
يتم اتخاذ هذا القرار من قبل الأطباء بعد دراسة كل حالة فردية بعناية. على سبيل المثال، يزداد الأمر تعقيداً إذا كان الطفل مولود ولادة مبكرة أو إذا كان يعاني من مضاعفات طبية مرضية، وذلك لأن فرص إصابة الرضيع بالسمية لا تعتمد على كمية الدواء المبتلع فحسب، بل أيضاًعلى مدى استقلاب الدواء (بالإنجليزية: Drug Metabolism). يعرف استقلاب الدواء على أنه مجموعة العمليات الحيوية التي تتعرض لها المادة الدوائية المبتلعة عند دخولها الجسم.
ومن الجدير بالذكر أن معظم الأدوية التي لها تأثير نفسي (بالإنجليزية: Psychotropic Medications) يكون استقلابها الحيوي في الكبد. وتعتمد قدرة الكبد على استقلاب الدواء على عمر الطفل وحالته الصحية، حيث أن الطفل المولود بعد إكتمال فترة الحمل الطبيعية يمتلك في أسابيعه الأولى ثلث إلى خمس قدرة الشخص البالغ في الاستقلاب الكبدي. وعند بلوغ الطفل عمر الشهرين إلى ثلاثة أشهر، ترتفع قدرة الاستقلاب الكبدي لدى الطفل لتتعدى معدلها لدى البالغين. أما الأطفال المولودون ولادة مبكرة أو الذين يعانون من مشاكل في الكبد (مثال على ذلك، ارتفاع البيليروبين في الدم)، فعادة ما تؤجل الرضاعة الطبيعية لهم لأنهم أكثر عرضة لخطر الإصابة بالأعراض الجانبية للأدوية المضادة للاكتئاب.
وفي حال اتفق الطبيب والأم على الدواء المضاد للاكتئاب وتم تحديد جرعاته المتناولة، يجب توعية الأم بالأعراض الجانبية المحتملة التي من الممكن أن تظهر عليها وعلى رضيعها، ويجب مراقبة هذه الأعراض للتأكد من سلامتها وسلامة الرضيع من سمية الدواء. وفي كثير من الحالات، يقوم الطبيب بوصف نظام علاجي يتضمن التدرج في جرعات الدواء خصوصاً في الأيام الأولى من تناوله، وذلك لمراعاة أن الأيام الأولى تشهد عادة ارتفاعاً أكبر في بعض تراكيز الأدوية المضادة للاكتئاب بسبب حساسية مستقبلات الجسم للدواء الجديد المتناول، وهذا قد يرفع من احتمالية ظهور الأعراض الجانبية.
اقرأ أيضاً: مشاكل الرضاعة الطبيعية وعلاجها
ما هي الأدوية المضادة للاكتئاب الأكثر استخداماً في الأم المرضعة؟
إن الأدوية المضادة للاكتئاب من فئة مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (بالإنجليزية: Selective Serotonin Reuptake Inhibitors or SSRIs) تعتبر عادة هي الخيار الأول لعلاج اكتئاب ما بعد الولادة، وذلك نتيجة تعدد الدراسات على هذه الفئة من مضادات الاكتئاب. وتشمل هذه الفئة أدوية عديدة، منها:
- السيتالوبرام (بالإنجليزية: Citalopram).
- الايسيتالوبرام (بالإنجليزية: Escitalopram).
- الفلوكسيتين (بالإنجليزية: Fluoxetine).
- الفلوفوكسامين (بالإنجليزية: Fluvoxamine).
- الباروكسيتين (بالإنجليزية: Paroxetine).
- السيرترالين (بالإنجليزية: Sertraline).
علماً أنه يوجد أدوية مضادة للاكتئاب أخرى لا تنتمي الى فئة مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية، وتستخدم بشكل أقل. ومن الأمثلة عليها:
- مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين والنورادرينالين (بالإنجليزية: Serotonin Noradrenaline Reuptake Inhibitors)، مثل الفينلافاكسين (بالإنجليزية: Venlafaxine) والدولوكسيتين (بالإنجليزية: Duloxetine).
- مثبطات إعادة امتصاص النورادرينالين (بالإنجليزية: Norepinephrine Reuptake Inhibitors or NRI) مثل الريبوكسيتين (بالإنجليزية: Reboxetine).
- البوبروبيون (بالإنجليزية: Bupropion).
- الميرتازابين (بالإنجليزية: Mirtazapine).
اقرأ أيضاً: ما هي الأدوية الآمنة بالنسبة للمرضع؟
نصائح يفضل الأخذ بها عند استخدام الأدوية المضادة للاكتئاب أثناء الرضاعة الطبيعية
ما يلي توصيات عامة من قبل الأطباء لاستخدام الأدوية المضادة للاكتئاب أثناء الرضاعة الطبيعية:
- يجب أن يكون اختيار العلاج المحدد للأمهات المرضعات مستمداً من تحليل شخصي فردي لحالة الأم النفسية المرضية، وتقييم لفائدة الدواء مقارنة مع خطورته، مع الأخذ بعين الإعتبار فوائد الرضاعة الطبيعية للأم والطفل.
- يجب تقديم المعلومات الكاملة عن العلاجات المتوفرة، ومخاطرها وفوائدها، من أجل تسهيل عملية اتخاذ القرار من قبل المريضة.
- يجب تجربة العلاجات الغير دوائية (مثال على ذلك، جلسات العلاج النفسي (بالإنجليزية: Psychotherapy)) قبل الدوائية، في الأمهات اللاتي تعانين من الاكتئاب الخفيف إلى المتوسط. أما في حالات الاكتئاب المتوسطة إلى الحادة، فيجب الأخذ بعين الإعتبار إضافة الأدوية المضادة للاكتئاب إلى العلاجات الغير دوائية.
- يجب أن يعتمد تحديد مضادات الاكتئاب المناسبة على التاريخ المرضي للأم، مع مراعاة العلاجات الفعالة السابقة التي تناولتها الأم.
- إذا كانت الأم تعاني من اكتئاب ما بعد الولادة للمرة الأولى في حياتها، وكان من الضروري وصف العلاج الدوائي لها، فإن دواءي السيرترالين والباروكسيتين يجب أن يتم تصنيفهم الخياران الأوليان في العلاج.
- يجب أن يبدأ العلاج بمضاد الاكتئاب بأقل جرعة فعالة ويتم زيادتها تدريجياً.
- يفضل العلاج بدواء واحد في الفترة الزمنية الواحدة.
- يجب مراقبة الحالة السريرية للأمهات والرضع، خاصة بالنسبة للرضع منخفضي وزن الولادة و/أو المرضى.
- لا ينصح بفحص مستويات الدواء في دم الرضع بشكل روتيني إلا إذا استدعت الحاجة الماسة لذلك، ويعوض عن هذا مراقبة الأعراض لدى الأم ورضيعها.
ولا يفوتنا توجه دراسات عديدة للوصول إلى القرار الأكيد بشأن سلامة تناول الأدوية المضادة للاكتئاب أثناء فترة الرضاعة، إلا أن صعوبة إجراء هذه الدراسات وتعدد العوامل المؤثرة فيها يجعل الأمر تحدياَ كبيراَ للباحثين في مجال صحة الأم والطفل. ويجب أن لا ننسى أهمية الدعم الأسري والاجتماعي للأم في هذه الفترة، فلا يجب إهمال صحة الأم النفسية والتقليل من جدية المرض، لما له من آثار سلبية مباشرة على الأم و الطفل المولود.
اقرأ أيضاً: اكتئاب ما بعد الولادة وتدابيره العلاجية