إن من عظيم صُنع الله، العقل البشري، والذي بوجوده كُرّم بنو آدم. ولعل ما يثير الاندهاش، أن العقل البشري استطاع أن يخلق ويطور عقولاً إلكترونية، يعتقد البعض أنها فاقت قدرات صانعها، لكن يظل الخيط الرفيع، الفاصل في هذه المسألة، هو أن هذه العقول مهماً كانت قدراتها، إلا أنها مصنوعة بأيدي وعقول بشرية.
التحفيز العميق للدماغ
ونرى اليوم مثالاً جديداً في الجراحة الوظيفية الدماغية، والتي تعتمد بالأساس على قدرة جهاز صغير يحدد برمجته، وقدرته عقل بشري ليقدم حلولاً لعقول بشرية أخرى قد أصابها الخلل والمرض. يطلق على هذا النوع من الجراحة أيضاً، تحفيز الدماغ العميق. وهو تدخل جراحي، يضع فيه الجراحون أقطاباً كهربية في مواضع محددة من المخ، يتولد عن هذه الأقطاب نبضات كهربية، تكون لها قدرة السيطرة على الأنشطة الدماغية الغريبة، مما يحد من الحركات اللا إرادية الناتجة عن عدد من الأمراض.
تختلف هذه النبضات من فرد إلى آخر، على حسب نوع الخلل الذي لحق بالدماغ، لذلك يكون التحكم في النبضات من خلال أجهزة مبرمجة توضع تحت الجلد في الناحية العلوية من صدر المريض. يتضمن هذا الإجراء الجراحي، وضع ثلاثة أجزاء داخل المخ وهي:
- قطب: وهو سلك معزول يوضع داخل جمجمة المريض في مكان محدد.
- خيط التمديد: سك معزول أيضاً يمتد من مكان القطب تحت فروة الرأس وصولاً إلى العنق والكتف، ليمثل جسراً يربط القطب بمولّد النبضات.
- مولد النبضات: الجهاز المُبرمَج والمتحكم في حجم النبضات الكهربية على حسب الحالة المرضية.
أسباب إجراء الجراحة الوظيفية الدماغية لمرضى الحركات اللا إرادية
عندما يصل الأطباء والمرضى إلى طريق مسدود من استخدام المستحضرات الدوائية، تُصبح الجراحة الوظيفية الدماغية، هي الملاذ الأخير بهدف تخفيف معاناة المرضى وخاصة في حالة الحركات اللا إرادية. إن عدد الأشخاص حول العالم، والذين خضعوا لمثل هذا النوع من الجراحة الوظيفية الدماغية، وصل لما يزيد عن مائة وستين ألف شخص، عانوا لفترات طويلة من أمراض عصبية تعوق حركاتهم الإرادية واللا إرادية.
يعد قرار إجراء الجراحة الوظيفية الدماغية من العمليات المُتشعبة، وذلك للاختلاف الكبير بين كل حالة وأخرى، لذا يشارك في عملية تشخيص المريض لاتخاذ ذلك القرار، جيش كبير من التخصصات المختلفة، منهم أطباء الأعصاب، والجراحة، وعلماء النفس، والأطباء النفسيين، وفي بعض الحالات الخاصة، مثل الشلل الرعاش، يُختبر المريض عن طريق اختبارات حركية خاصة.
وبالإضافة لكل ذلك، هناك عدد كبير من المقاييس والتقييمات التي تُسجّل أثناء عملية التشخيص. من ضمن هذه الاختبارات والإجراءات التي يخضع لها المرضى الآتي ذكره:
- اختبارات الدم والبول: والتي توضح حجم وكمية السموم والتغيرات غير الطبيعية داخل المريض.
- التصوير بالرنين المغناطيسي والأشعة المقطعية: يقدم التصوير بالرنين المغناطيسي والأشعة المقطعية، صورة واضحة لأماكن المخ المُعتلة، وتوجه لاحقاً حجم النبضات التي ستفي بالغرض لتخفيف أعراض المرض العصبي.
في النهاية، يظل القرار باتخاذ هذا الإجراء الجراحي، رهن مجموعة من الأسباب، من أهمها:
- الخلل الحادث في الدماغ، وهل أصبح يشكل خطراً على حياة المريض؟
- فشل المستحضرات الدوائية في التحكم والسيطرة على أعراض المرض العصبي والحركات اللا إرادية.
- وجود آثار جانبية للعلاجات الدوائية، لا يستطيع المريض التعايش معها.
انجازات الجراحة الوظيفية الدماغية
تختلف الأعراض والعلاج من حالة إلى أخرى، ولذلك سوف نلقي الضوء هنا، في هذا المقال على بعض الأمراض العصبية، التي تُسبب خللاً في الحركات اللا إرادية، وقد أظهرت الجراحة الوظيفية الدماغية نجاحات كبيرة في علاجها حتى الآن.
اعتلال التوتر العضلي
هو خلل يلحق بالعضلات والأعصاب، ينتج عنه تشنّج عضلي لا إرادي لا يمكن التحكم فيه من قبل المريض، يتسبب في هذا المرض، تلف في أحد أجزاء المخ الداخلية، وظيفته الأساسية تنسيق الحركات، والسيطرة عليها، يتأثر جسم المريض في مناطق مختلفة بهذا الخلل الحادث، وبالتالي فإن كثير من العضلات، تقع تحت تأثيره، مثل عضلات الساق، والذراع، والجفون، حتى الأحبال الصوتية. ومن المناطق المعروفة، التي تتأثر بهذا المرض، الرقبة، ولها حالة معروفة، يطلق عليها صُعار الرقبة التشنّجي.
تمر مراحل علاج اعتلال التوتر العضلي بعدة مستويات، تبدأ بالعلاج الدوائي، مثل حقن البوتوكس، ثم بعض المحاولات الجراحية، التي تهدف إلى قطع السيالات العصبية المتجه ناحية العضلات المتأثرة. وفي الآونة الأخيرة، صارت الجراحة الوظيفية الدماغية، حلاً مناسباً لعلاج المرضى الذين يعانون من هذه الحالة اللا إرادية.
الرعاش
اهتزاز يُصيب حركة اليد أو الذراع كله، عند محاولة الحركة العادية. كبار السن هم أكثر الأفراد تعرُضاً لمرض الرعاش، يرجع سبب الإصابة بهذا المرض إلى، خلل في مناطق المخ المسئولة عن التحكم في الحركة، مما ينتج عنه تتابع من الحركات اللا إرادية.
في الحالات العادية والبسيطة من الرعاش، تأتي العلاجات الدوائية، وكذلك الطبيعية والتمارين بنتائج جيدة في العلاج، لكن في كثير من الأحيان، تزداد حدة الرعاش، ويكون له آثار سيئة على قدرة المرضى بالتمتع بحياة هادئة، لذلك فإن العلاج بالجراحة الوظيفية الدماغية، استطاع مؤخراً، حل هذه المُعضلة بامتياز، عن طريق إرسال النبضات الكهربية، إلى منطقة المهاد في المخ والخلاص من السيالات العصبية المُسببة للرعاش.
الشلل الرعاش
أكثر من عشرة ملايين في العالم يعانون من الشلل الرعاش، والمتسبب في الشلل الرعاش، الخلل الحادث بالخلايا العصبية في المخ، في منطقة البقعة السمراء. بمرور الوقت يتحول هذا الخلل إلى موت الخلايا العصبية، وبالتالي توقف إنتاج الدوبامين.
من الأعراض الشائعة للشلل الرعاش، تيبس العضلات والأطراف، وفقدان القدرة على الحركة الإرادية بالتدريج، وعدم الاستقرار والثبات أثناء السير. كذلك يعتبر الشلل الرعاش سبباً في حدوث الرعاش، وليس العكس، لاختلاف التلف الحادث والمتسبب في المرض في كلا الحالتين. لعلاج غالبية مرضى الشلل الرعاش، تُستخدم بعض الأدوية مثل الدوبامين، ومضادات الكولين، لكن كلها لتخفيف الأعراض وليس لحل المشكلة.
قفزت الجراحة الوظيفية الدماغية، عالياً بآمال المرضى، واستطاعت أن تُحدث طفرة حقيقية في وجود حل لمعاناة هؤلاء المرضى حول العالم، حيث أن مولد النبضات يستطيع الوصول لمنطقة تحت المهاد بالمخ، وإعادة السيطرة عليه، ومنع الأعراض التي خلّفها من قبل.
اقرأ أيضاً: الاكتئاب عامل مهم في تحديد حالة مصابي الشلل الرعاش
الصرع
يعتبر مرض الصرع من الأمراض التي يفوق انتشارها في العالم حد الخمس وستين مليون إنسان، والصرع من الأمراض المزمنة، التي ينتج عنها نوبات غير معروفة السبب، تؤدي إلى نشاط عنيف ومفاجئ للسيالات العصبية الكهربية في الدماغ. من أعراض الصرع المعروفة، الانقباضات العضلية القوية المفاجئة اللا إرادية، والتي تصل لدرجة فقدان الفرد الوعي.
كل الأفراد عُرضة للإصابة بهذا المرض، غير أنه وجد بكثرة في الأطفال وكبار السن، لكن يزداد احتمال الإصابة بالصرع في بعض الحالات مثل، الارتفاع الحاد في درجة حرارة الجسم، أو تعرُض الرأس للاصطدام، كذلك انخفاض نسبة سكر الجلوكوز في الدم.
بالنسبة لعلاج مرض الصرع، فإن محاور العلاج تكون على حسب الأسباب المشتبه فيها لحدوث الصرع، ومن ضمن هذه العلاجات:
- مضادات الصرع: وهي تهدف لتقليل عدد النوبات التي تحدث دون إنذار.
- اتباع النظام الكيتوني في الغذاء: وهو نظام يعتمد على الدهون بنسبة عالية، ويكون منخفض الكربوهيدرات.
- الجراحة العادية: وهي جراحة تقليدية هدفها إزالة بعض الخلايا من إحدى المناطق في الدماغ، من المحتمل أن تكون سبباً في الصرع.
بينما تبقى الجراحة الوظيفية الدماغية، حلاً سحرياً، عن طريق السيطرة على السيالات العصبية القادمة من الدماغ المسببة لنوبات الصرع.
للمزيد: الاسعافات الاوليه لنوبات الصرع او التشنجات
مزايا الجراحة الوظيفية الدماغية
تتمتع الجراحة الوظيفية الدماغية بعدد من المزايا، من أهمها التالي:
- الجراحة تكون في أحد جوانب المخ أو الجانبين معاً، على حسب طبيعة الحالة.
- التعامل بسهولة مع الآثار الناتجة عن الجراحة، والتحكم فيها، أو إزالتها تماماً.
- القدرة على إعادة ضبط مولد النبضات، وما في ذلك من سهولة في السيطرة طوال الوقت على الأعراض.
مخاطر الجراحة الوظيفية الدماغية
تطوي الجراحة الوظيفية الدماغية على بعض المخاطر، وهي كالآتي:
- احتمال حدوث عدوى أثناء أو بعد الجراحة.
- نسبة ضئيلة جداً من خطر حدوث نزيف بالمخ، أو سكتة في الدماغ.
- حدوث تعطُل في مولد النبضات.
- الشعور بالصداع المستمر بسبب زيادة السيالات الكهربية المؤثرة على مناطق المخ.
الآثار الجانبية للجراحة الوظيفية الدماغية
تظهر هذه الآثار أثناء عملية توجيه مولد النبضات لأجزاء المخ
- تنميل في الأطراف والوجه.
- اضطرابات في الرؤية وبعض الكلمات ومخارج الحروف.
- فقدان القدرة على الاتزان.
- الإحساس بتقلص العضلات عند وصول السيالات العصبية إليها.