إن تاريخ جراحة الأعصاب، مزدحم بأسماء جراحين عظماء، حملوا على عاتقهم، مشاعل التنوير، وتحديات كبيرة اجتازوها، وصولاً لما حُقق من انجازات كبيرة في هذا المجال.
على مر العصور، ومع اختلاف الحضارات، تطور طب جراحة المخ والأعصاب، مثل كرة ثلج صغيرة، ومع اندفاعها ومرور الزمن وصلت لحجمها العملاق الذي نراه الان، ولا يعلم أحد متى تستقر.
واليوم في هذا العالم المهتم بالعلم، وتطوير كل مايتعلق بالطب، هناك من يسيرون على خطى الأجداد، وفي هذا المقال، سنتجول عبر التاريخ، ونرى في كل حضارة، وحقبة من الزمن، ما وصلت إليه جراحة الأعصاب.
مراحل تطور جراحة الاعصاب
المصريون القدماء وجراحة الأعصاب
دوّن الفراعنة كل شيء على جدران معابدهم، وفي أوراق البردي. ففي عام 1862 وجد شخص يدعى (مصطفى اغا) أوراق بردي، اشتراها منه أحد علماء الآثار الأمريكان، وبعد وفاتة، تبرعت عائلته بالمخطوطة إلى جمعية نيويورك التاريخية، والاعتقاد السائد حول هذه المخطوطة، أن من كتبها امنحوتب أحد أعظم الأطباء القدماء، والأكثر شهرة في التاريخ.
المثير في هذه المخطوطة، أن ما دون فيها من حالات مرضية تم تشخيصها في تلك الفترة، دلالة على تقدم المصريين في طب جراحة المخ والأعصاب، حيث وجد بالمخطوطة، ثلاثة وثلاثين حالة مثل:
- جروح في أنسجة الفروة واختراق للجمجمة.
- تكسير في فقرات الرقبة، وإصابة الحبل الشوكي.
- إصابة في الفص الصدغي من المخ.
اقرأ أيضاً: اثر الجراحة الوظيفية الدماغية على الحركات اللا ارادية
وبعض الحالات التي لا يمكن تشخيصها، إلا إذا كانوا قد وصلوا لمرتبة عالية من التشريح والجراحة، كذلك فإن ما تحمله المخطوطة من تعليمات وطرق علاج، واستخدام الأدوات الجراحية، لا يدع مجالاً للشك في أن الفراعنة سبقوا العالم في جراحة الأعصاب.
اليونان وجراحة الأعصاب
إن أطباء العالم، يٌقسمون قسمهم حتى اليوم، باسم ذلك العظيم (أبوقراط)، الذي كان فذاً للدرجة التي مكنتّه من تطوير عمليات الأعصاب. حتى أن البعض يؤمنون أن أبوقراط انحدر أساساً من اسكلابيوس إلاه الطب عند اليونانيين، وترك أبوقراط إرثاً كبيراً من الكتابات الطبية، ومن بين هذه الجواهر كتابه "إصابات الرأس"، والذي يقدم فيه، حلولاً عملية لمعظم الإصابات التي تلحق بالرأس، كما قدم في كتاباته وصفاً دقيقاً لحالات الشلل، واتصال العمود الفقري بباقي الجسم، أي أنه تعرّف على الأعصاب وأماكن اتصالها.
الرومان وجراحة الأعصاب
فارس من فرسان هذا العصر، هو الطبيب (جالينوس) الذي ولد في روما، وعاش فترة طويلة في الإسكندرية، ويشهد سجل عمله بمعرفته في طب جراحة المخ والأعصاب، وأنه أول من أوجد علاقة بين الدماغ والمشاعر والأحاسيس، وأن الجهاز العصبي يتحكم في كل شيء، وهو أول من كتب عن الالتهابات السحائية، واستطاع أن يجري جراحة في الحبل الشوكي، وعلى أثرها ربط علاقة الحبل الشوكي بالحركة.
ترك جالينوس وصفاً أدق مما تركه أسلافه، ومنهم أبو قراط، وعُرف عنه مهارته في الجراحة، واستخدام خيوط جراحية متعددة، حتى أن الدوائر الطبية تضع جالينوس ضمن أعظم من أسسوا تاريخ الطب عامة، و جراحة الأعصاب على الأخص.
للمزيد: ما يجب أن تعرفه عن الالتهاب السحائي
عصر النهضة وجراحة الأعصاب
كان من الأسباب التي أُطلق فيها على هذه الفترة اسم النهضة، هو التقدم الملحوظ في كل نواحي الحياة. وكان طب جراحة المخ والأعصاب من ضمن هذه النهضة بلا شك، وبزغ اسم من الأسماء التي لا يمكن نسيانها وهو (إمبراوز باري)، والذي استطاع إجراء العديد من الجراحات الصعبة في المخ والحبل الشوكي، كذلك كان من أسباب اعتبار باري طبيب استثنائي أنه كان دائماً يبتكر أدوات مساعدة، دوّن العديد منها في كتاباته التي تركها.
على الرغم من بداية باري الفقيرة، وعدم شهرته، إلا أنه أصبح الجراح الخاص لأربعة من ملوك فرنسا لاحقاً، ومن عباراته الشهيرة، "أنا أتعامل مع المرضى، ولكن الشفاء من الله". باري بكل ما ابتكره في عمليات الأعصاب حفر لنفسه اسماً كأحد الذين طوروا طب جراحة المخ والأعصاب في التاريخ.
القرن الثامن عشر وجراحة الأعصاب
في هذا القرن والذي يسبقه حدث تطور كبير في جراحة الأعصاب، ولأول مرة رُبط بين علاقة جراحة المخ والأعصاب وأمراض أخرى في الجسم.
ظهر جراح آخر وهو (برسيفال بوت)، وهو يشبه لحد كبير الجراح باري، في المستوى التعليمي المتواضع نسبياً، إذ كانت بدايته ولفترة طويلة جراحاً مساعداً، ولقب بوت فيما بعد، بجراح الأعصاب السابق لعصره، لما ساهم فيه من تطوير طب جراحة المخ والأعصاب، حتى أن له مجلد ويعتبر مرجعاً كبيراً في الأمراض التي تلحق بالعمود الفقري والأعصاب المرتبطة به، وما ينتج عن ذلك من شلل للأطراف. كذلك وصف مرض السل وعلاقته بحدوث ضغط على الحبل الشوكي، وسمي هذا الوصف باسمه، مرض بوت.
القرن التاسع عشر وجراحة الأعصاب
مع التطور الكبير في استخدام الكلوروفورم، حدثت نقلة نوعية في جراحة الأعصاب، حيث أنه أصبح من الممكن أن يخضع المريض لعدد ساعات أطول في إجراء جراحي دون قلق، قام كذلك أحد الجراحين الإنجليز، (جوزيف ليستر) باستخدام حمض الكربوليك للتطهير، وقلل نسب التلوث والعدوى التي كانت تطارد العمليات الجراحية.
على الرغم من تطور الأدوات التي ساعدت الجراحة العامة، ظلت عمليات الأعصاب في بدايات القرن التاسع عشر بطيئة، لكن التاريخ كان على موعد مع جراح اسكتلندي، يطلق عليه حالياً، أبو الجراحة العصبية، وهو (وليلم ماكيوين)، كان ماكيوين أول من طور تشخيص، وعلاج أورام المخ، وأزال لأول مرة ورماً في الدماغ لفتاة كانت في الرابعة عشر من عمرها.
اقرأ أيضاً: علامات خطيرة قد يكون سببها ورم دماغي- ورم الرأس
ومن الذين شاركوا في هذا العصر، الطبيب الإنجليزي (فيكتور هورسلي) والذي أدخل فكرة وضع الشمع على حافة العظم، لمنع حدوث نزيف، وهي التقنية التي تُستخدم حتى الآن. كذلك أزال ورماً في الحبل الشوكي في عملية ناجحة ورائدة في عام 1888.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، كان الجراح (ويليامز كين) يقفز قفزات كبيرة في عمليات الأعصاب، وكان من إنجازاته العلمية الكتاب الشهير في الجراحة، "كتاب الجراحة الأمريكي".
القرن العشرين وجراحة الأعصاب
رائد هذا القرن، الجراح الكبير (هارفي كوشينج)، والذي استطاع أن يُجري جراحات في المخ والأعصاب تُجرى حتى يومنا هذا. ابتكر طريقة تعتمد على ضغط الهواء، لحل مشكلة النزيف في المخ أثناء الجراحة، وعمل على الغدة النخامية، وتعديل بعض التشوهات التي تلحق بها. الكثير من الإنجازات والنجاحات التي قام بها هارفي، جعلته في الصفوف الأولى مع الجراحين العظام تاريخياً، كما أن هناك منظمة لجراحة الأعصاب في الولايات المتحدة الأمريكية تسمى، جمعية هارفي كوشينج.
أدوات أثرت على تاريخ جراحة الأعصاب
حدث تطور كبير في طب جراحة المخ والأعصاب، وانتقال من حقبة إلى أخرى، ومن نجاح إلى نجاح، ولكن كان العامل الرئيسي في كل هذا هو التطور الكبير في مجالات مساعدة في جراحة الأعصاب. التطور في التخدير، والتعقيم، كان له الأثر الأكبر على نجاح وتطور عمليات الأعصاب.
الجراح باري على سبيل المثال، استبدل الطريقة التقليدية للتعقيم، وهي وضع الزيت المغلي، بمواد أخرى، كما كان لاكتشاف فصائل الدم عن طريق (كارل لاندشتاينر) المساهمة الفعالة في منع حدوث التجلط عند انتقال الدم في عمليات الأعصاب.
يعد تطور طرق التخدير، من الطفرات في مجال جراحة الأعصاب، وبدلاً من استخدام المواد المخدرة مثل الأفيون، استخدم عدد من المخدرات الأفضل مثل أكسيد النيتروز، والإيثرات، وصولاً إلى الكلوروفورم.