علي إيقاع بسيط مصنوع من خليط المحبة والحنان، لأحقاب كثيرة هدهدتنا أمهاتنا لننام في سكينة وأمان، في أول حالة سجلت لعلاج الأرق عبر الموسيقى النابعة من الأمومة.

يقول شيخ الأطباء العرب ابن سينا: إن أهم أنواع المعالجة المؤثرة هي تعزيز الطاقة العقلية والروحية للمريض ليقوى على مقاومة المرض بواسطة بيئة مليئة بالبهجة وبطريق عزف أفضل أنواع الموسيقى وإحاطته بمن يحب من الناس.

كما يقول العالم أبو بكر الرازي: إن للموسيقى أثر سحري يقي المرضى من تأجج أزماتهم النفسية.

ابن سينا والمالنخوليا

ذهب أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (980 – 1037م) في كتابه "القانون في الطب" إلى أن في الموسيقى علاجاً لعدد من الأمراض النفسية والعقلية التي تصيب الإنسان، مثل المالنخوليا التي يصاب صاحبها بأعراض منها الإفراط في التفكير، ودوام الوسوسة، والنظر الدائم إلى الشيء الواحد، وهذيان الكلام، والخوف من أشياء لا تخيف في العادة مثل سقوط السماء عليه، أو ابتلاع الأرض إياه. وذكر ابن سينا قائمة من العلاجات لهذا المرض أهمها تطريب المريض بالسماع إلى الموسيقى والمطربات، باعتبارها أشياء مهمة يمكن أن تشغله عن الفراغ والخلوة والتفكير المبالغ فيه.

اخوان الصفا واوتار العود

في رسائلهم، ذكر إخوان الصفا (52 رسالة عن مختلف العلوم كتبتها جماعة مجهولة ظهرت قديماً في البصرة نحو القرن العاشر الميلادي) أن الموسيقى بها تأثيرات روحانية وتترك أثراً عظيماً في النفوس، لدى تغيرها من حال إلى حال، ولذا استخرج منها الأطباء ألحاناً استعملوها في البيمارستانات لشفاء كثير من الأمراض والعلل. شرح إخوان الصفا أن كل وتر من أوتار العود يصدر نغمة تؤثر في أمزجة طباع المستمعين لها، "فنغمة وتر الزير تقوي خلط الصفراء، وتزيد في قوتها وتأثيرها، وتضاد خلط البلغم وتلطفه، ونغمة المثني تقوي خلط الدم، وتزيد في قوته وتأثيره، وتضاد خلط السوداء وترققه، ونغمة المثلث تقوي خلط البلغم، وتزيد في قوته وتأثيره، وتضاد خلط الصفراء، وتكسر حدتها، ونغمة البم تقوي خلط السوداء، تزيد في قوتها وتأثيرها، وتضاد خلط الدم، وتسكن فورانه". وقالوا: إذا ألفت هذه النغمات في الألحان المشاكلة لها، واستعملت في أوقات معينة من الليل والنهار، خففت على المرضى آلامهم، لأن الأشياء المتشاكلة في طباعها إذا كثرت واجتمعت قويت أفعالها وظهرت تأثيراتها وغلبت أضدادها. 

تاريخ العلاج بالموسيقى

تشير الأدلة التي وصلتنا إلى التأثير السحري للموسيقى في شفاء الجسم وتقوية العقل. ووجد الباحثون أن الموسيقى لها تأثير كبير على علاج الاكتئاب والأرق والإجهاد وانفصام الشخصية والخرف والاضطرابات المرتبطة بالطفولة مثل التوحد.

وفيما يتعلق بفقه ما إذا كانت الموسيقى مسموح بها أم محظورة في الإسلام "حلال أم حرام"، يمكننا أن نجد أراء مختلفة من العلماء المسلمين، ومع ذلك، لا تعتبر الموسيقى عموماً محظورة في الإسلام طالما أنها حاجة علاجية.

منذ ألف عام ويزيد، كان الأطباء المسلمين في طليعة رواد الطب واستخدموا الابتكارات والتقنيات العلاجية المختلفة التي أصبحت الآن حديثة. عالجوا الأمراض العقلية عن طريق حصر المرضى في المصحات مع تقنيات القرن الحادي والعشرين للعلاج بالموسيقى.

مستشفى المنصوري في القاهرة، الذي أنشأه مالك المنصور سيف الدين قلاوون في عام 1284، مثل المستشفيات المتقدمة اليوم؛ لتزويد المرضى بالترفيه عن طريق الموسيقى الخفيفة. ويؤمن الصوفية أن الاضطرابات العقلية والعصبية تشفى بالموسيقى.

ولقد أسس العلماء والأطباء العرب العظماء الرازي (854–932) وفارابي (870-950) وابن سينا ​​(980-1037) مبادئ علمية تتعلق بالعلاج الموسيقي، خاصةً الاضطرابات النفسية.

وفقاً للفارابي، تختلف آثار مقامات الموسيقى العربية على الروح وفقاً لنوع المقامات، بمعنى أن "راست" مقام: يجلب للشخص السعادة والراحة. كما أوضح أن آثار مقامات الموسيقى التركية تختلف باختلاف الأوقات التي كانت فعالة فيها، أي، أصفهان مقام: فعال عند الغسق.

ثم قام المفكر والفيلسوف الإسلامي العظيم ابن سينا ​​(980-1037) بتطبيق أعمال الفارابي الموسيقية في علاجه للمرضى المصابين بأمراض عقلية. وأصبح عمل هذين العالمين قاعدة لتطوير العلاج بالموسيقى لاحقاً. 

تعددت البيمارستانات العربية التي شهدت هذه الوسيلة العلاجية. جاء في الجزء العاشر من كتاب "وصف مصر" الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية (1798 – 1801)، أن القاهرة كان بها منذ خمسة إلى ستة قرون الكثير من المستشفيات المخصصة لإيواء العجزة والمرضى أو "المعتوهين" (الاسم الذي كان يُعطى لأصحاب الأمراض العقلية).

بيمارستان قلاوون في القاهرة

 بيمارستان قلاوون الذي ضم أصحاب الأمراض العقلية من الجنسين. وبحسب كتاب "وصف مصر" كانت تكلفة كل واحد من المرضى في اليوم قطعة من الذهب (ديناراً)، وكان في خدمته شخصان، وكان المرضى الذين يعانون من الأرق ينقلون إلى قاعات منفصلة، وهناك يسمعون موسيقى متآلفة الأنغام، أو يقوم قصاصون متمرسون جيداً بالترويح عنهم بأقاصيصهم. وحالما يبدأ المرضى في استرداد صحتهم يتم عزلهم عن الآخرين، ويتاح لهم الاستمتاع بمشاهدة الرقص، وتعرض أمامهم ألوان من الكوميديا.

بيمارستان النوري في دمشق

في سنة (549 هـ/ 1154م) شيّد نور الدين بن زنكي (حكم حلب بعد وفاة والده سنة 541 هـ، وقام بتوسيع إمارته بشكل تدريجي) بيمارستاناً في دمشق أوقفه على الفقراء دون الأغنياء، إلا إذا لم يجد الأغنياء دواء لعللهم في غير هذا البيمارستان. وذكرت المستشرقة الألمانية "زيجريد هونكة" في محاضرة ألقتها قديماً في فناء هذا البيمارستان، أن المريض فيه كان يحظى بعلاج خاص، في عيادات متخصصة شديدة المراقبة، أو في أقسام الأمراض العصبية التي كانت المعالجات فيها دقيقة وحكيمة، تجرى من قبل أخصائيين، بوسائل أقرب إلى وسائلنا العصرية، كالخضوع للمنوم الصحي، واستخدام الموسيقى، حسبما ذكر الدكتور أحمد فؤاد باشا في بحثه المُعنون "المؤسسات العلمية والتعليمية في عصر الحضارة الإسلامية" والوارد في كتاب "المؤسسية في الإسلام".

بيمارستان أرغون الكاملي في حلب

أنشأه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي سنة 755هـ. وذكر الدكتور أحمد عيسى في كتابه "تاريخ البيمارستانات في الإسلام" أنه كان يحتوي على حجرة مخصصة لعلاج المجانين، وكان القائمون عليه يأتون بآلات الطرب وبالمغنين فيداوون المرضى بها.

بيمارستان سيدي فرج في فاس

كان يقيم به المرضى العقليون. ويقول عيسى أن السلطان أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بناه عندما تولى الملك سنة 685هـ/ 1286م ليضم مرضى المسلمين الذين لا ملجأ لهم أو مأوى يأوون إليه، وسمي البيمارستان بسيدي فرج لأن المرضى كانوا يجدون فيه ما يفرج كربهم. وفي سنة 900هـ، أقام أهل الأندلس من المسلمين في فاس، فتولى رئاسة البيمارستان طبيب من بني الأحمر (أسرة حكمت غرناطة في أواخر العصر الإسلامي) يسمى فرج الخزرجي، فأصلح فيه وجعل الموسيقيين يلحنون أمام المرضى، حسبما ذكر عيسى.

بيمارستان مراكش

أنشأه منصور الموحدي (ثالث حكام الموحدين في بلاد المغرب وحكم بين عامي 1184- 1199هـ). وبحسب السيد استخدمت فيه الموسيقى لعلاج المرضى والترويح عنهم.

اقرا ايضاً :

يعقوب بن اسحق الكندي      Al kindi

فلسفة العلاج بالموسيقى

وفقاً لمصادر تركية قديمة، تم إنشاء الكون بواسطة كلمة " كن"، أي عن طريق الصوت.

هذا يعني أن الكون بدأ بالصوت. وتم تعزيز فكرة الشعوب التركية عن الطابع الإلهي للصوت بعد اعتناق الإسلام منذ القرن الحادي عشر. وارتبط عدد واختلاف الحروف بالتنوع في الخلق والوجود. وبالتالي، كان يعتقد أن الكلمات هي غطاء الجوهر. ولعبت هذه العلاقة دوراً مهماً في تعزيز الاعتقاد بأن العلاج بالموسيقى قد يعيد تآلف وانسجام المريض، مما يخلق توازناً عاقلاً بين الجسم والعقل والعواطف.

استوعب العلماء المسلمون نظريات القدماء الموسيقية والمعلومات المتعلقة بالموسيقى العلاجية، والتي يمكن إرجاعها إلى المصادر الهلنستية، المستمدة أساساً من المفاهيم والمنظورات السومرية والبابلية والمصرية. بينما تتبع الأتراك المسلمون أفكار الناس القدامى، كونهم جزءاً من المجتمع الإسلامي، وكانوا في الوقت نفسه بمثابة المحول الرئيسي للصينيين والهنديين، وهي أفكار شرقية بعيدة المدى إلى الشرق الأدنى والشرق الأوسط وخاصةً في الأناضول، وفي الوقت نفسه تقديم مفاهيمهم الأصلية لتقليد العلاج بالموسيقى في آسيا الوسطى. والتي انعكست بشكل خاص في الطقوس الصوفية.

إن النظرية القديمة للأعداد والانسجام في المجالات، أي حركة النجوم، وخصائصها الجوهرية، وتأثيرها على البشرية، انعكست على مخطط الموسيقى الكونية للنظرية الإسلامية، ومن ثم نظرية الموسيقى العثمانية.

طورت نظرية الأعداد المعبر عنها بالمصطلحات الموسيقية بواسطة فيثاغورس، التي تأثرت بالتنجيم البابلي. كان يعتقد أن الأصوات غير المسموعة التي تنتجها حركة الأجرام السماوية، والتي تسمى "تناغم الأجسام"، تعبر عن التناغم الرياضي للعالم الكلي. وبالتالي، كان يعتقد أن وسائط أو تسلسل النوتات الموسيقية لها معنى رياضي.

"البحث عن العقل والمنطق الفكري في العلاج بالموسيقى يعتمد على فكرة أن الإنسان كان جزءاً من الانسجام الكوني".

تماماً كما كان يعتقد أن الأجرام السماوية لها نظائر في جسم الإنسان، كان من المفترض أن تؤثر الاهتزازات الصوتية التي تعكس الأجسام السماوية أيضاً على جزء مريض من الجسم، لتحقيق الانسجام بين الجسد والروح فتؤدي إلى الشفاء.

للمزيد: الموسيقى تعالج الأمراض النفسية و الإصابات الدماغية

 تطبيق العلاج بالموسيقى

كما وصلنا من كتاب الرحلات (1664) لإيفيليا تشيلي وتعديل المزاج من قبل الطبيب شوري (ت. 1693)، كان العلاج بالموسيقى من خلال الاستماع ؛ لم يمارس العلاج بالموسيقى في المستشفيات العثمانية كعلاقة فردية، لكن مجموعة من المرضى استمعوا إلى مجموعة من اللاعبين والمغنين، وهذا على الأرجح يوضح أن العلاج بالموسيقى كان نشاطاً جماعياً. ولكن، إذا كان من المفترض نظرياً أن يختلف تأثيرها من مزاج أو مرض إلى آخر، فيجب أن تمارس على أعضاء من مجموعة من المزاجات أو الأمراض المحددة. فإلى أي درجة تعتمد الممارسة على هذه النظرية؟ هي مسألة مناقشة لم تحل حتى الآن.

 لا يوجد وصف لطريقة التطبيق للعلاج بالموسيقى في النصوص التركية ؛ تم تقديم النصائح فقط لعلاج الأمراض، دون أي تفاصيل مثل المسافة بين المريض واللاعب أو المغني. ولم يلاحظ أي شيء في الأعمال الطبية المتعلقة بالمعالج وعلاقته بالمريض، ولم يرد ذكر ما إذا كان المرضى يعزفون على الآلات أم لا.

الاستخدام المناسب للموسيقى كوسيلة لتطوير الذات

لم يتم ملاحظة استجابات المرضى لآثار العلاج بالموسيقى أو في آثارها في المصادر التي شملتها معظم الدراسات، بل حدث في القرن السابع عشر، وصف التخلي عن العلاج بالموسيقى في إحدى المستشفيات، نتيجة اعتباره وسيلة ترفيهية من قبل أولئك الذين أفسدوا قواعد المستشفى وجعلهم يتجاهلون واجباتهم، وقد عكست هذة التوصية موقفاً حرجاً، على الرغم من عدم وجود نقد بشأن نجاح العلاج بالموسيقى. وقد ذهب البعض اليوم بهذه الأدلة كمثال على فشل العلاج بالموسيقى على الرغم من أن قادة الفلاسفة في الإسلام وافقوا على فكرة استخدام الموسيقى للتسلية، بشرط ألا تثير الشهوة.

للمزيد: الموسيقى الحزينة تجلب حزن حقيقي

وعلى جانب آخر لاحظ الفيلسوف، الطبيب والصوفي، أن بعض صيغ الموسيقى سعيدة، وأن البعض الآخر له تأثيرات حزينة، ولذا يجب أن تكون الموسيقى وسيلة لتطوير شخصية مثالية. حيث أن تحقيق الانسجام بين الفكر والعواطف يمكن أن يقود الإنسان إلى إدراك نفسه. ونذكر أن الفلاسفة القدماء أفلاطون وأرسطو كانوا يعتقدون أن بعض الأنماط الموسيقية تمتلك قيمة أخلاقية وتنتج بعض الآثار على أخلاق المستمع وساعدت في تنمية الشخصية.

بالنسبة للصوفي، جاء التطهير والتنوير من خلال القلب. تم وصف القلب بأنه العضو الأكثر فضيلة والمركز الرمزي لوجود الإنسان وتم قبول الشعور بالحب من خلال القلب كمفتاح للوعي بوجود الخالق. كان هذا مقاربة تعليمية للموسيقى. استخدمت الموسيقى الصوفية كوسيلة للتدريب لتحقيق الكمال المثالي، مما يعني أيضاً أن تصبح متناغماً مع الذات. وكان يعتقد أن كل خصائص الكون قد منحت للإنسان من قبل الخالق. لذلك، كان الهدف النهائي للموسيقى هو تحقيق حرية الذات، حتى تصل روحها إلى الأصل الإلهي.

لايوجد اعراض لاني لم استخدمه الى الان

الوطن العربي حديثاً

تم افتتاح أول مركز علاج بالموسيقى في الوطن العربي في مصر، حيث أنشئت الجمعية الوطنية للعلاج بالموسيقى (1950)، ثم تأسس المعهد الوطني لحماية الطفولة في تونس ومركز الشرق الأوسط للعلاج بالموسيقى في الأردن.

أما في لبنان، فلم يبدأ استخدام هذا النوع من العلاج إلا في العام 2006 وبمبادرات شخصية اقتصرت على عدد من المتخصصين في علم النفس، والذين تابعوا دورات في مجال العلاج بالموسيقى في الخارج. وقد أطلقت حديثاً دراسة للبدء قريباً بعلاج مرضى الزهايمر بالموسيقى.

كخلاصة لكل ما سبق، على المرء أن يخصص جزءاً من أوقاته لسماع الموسيقى الراقية، لما لها من مزايا وفوائد متعددة. فهي إضافة إلى دورها المساعد في العلاجات النفسية والجسدية، تحسن طريقة العيش وتشجع على حب التجدد والذوق السليم، كما أنها تخفف من الضغط اليومي والهموم والأحزان، وتحسن مستوى الذكاء التفاعلي لدى الفرد من خلال تحفيز سرعة البديهة لديه. فالموسيقى هي أقدر الفنون على خدمة الإنسان وتحسين علاقته بنفسه وبالآخرين، كما أنها قادرة على خدمة القضايا الإنسانية كالسلام والديمقراطية والتقدم وغيرها، المهم أن نحسن الاختيار...

للمزيد: الموسيقى الصاخبة تثقل عقل المراهقين