هل مررت يومًا بلحظة لا تُمحى من ذاكرتك، بينما هناك مئات التفاصيل الأخرى في حياتك اختفت وكأنها لم تكن؟ ربما تذكرت رائحة عطر في مناسبة معينة، فأعادك عشرين عامًا إلى الوراء، ليس فقط إلى شخص معين، بل إلى تفاصيل دقيقة كضوء الشمس في ذلك اليوم. فما السر وراء احتفاظ الدماغ ببعض التفاصيل الصغيرة ونسيان غيرها؟
دراسة جديدة من جامعة بوسطن كشفت أن دماغك "انتقائي" أكثر مما تتخيل في اختيار الذكريات التي يحتفظ بها.
الذاكرة ليست كاميرا.. بل محرر ذكي
على عكس ما نظنه، دماغنا لا يسجّل كل ما يحدث مثل كاميرا فيديو، بل يختار ما يحتفظ به وما يتجاهله.
الدراسة الجديدة كشفت أن الدماغ يملك آلية انتقائية، تمنح بعض اللحظات العاطفية القدرة على إنقاذ ذكريات أخرى عادية كانت ستُنسى لولا ارتباطها بتلك اللحظة الكبيرة.
لهذا السبب قد لا تنسى أبدًا خبر نجاحك في امتحان مصيري، لكن الأغرب أنك قد تتذكر أيضًا وبوضوح تام القميص الذي ارتديته ذلك اليوم، أو نغمة رنين هاتف غريبة سمعتها في تلك اللحظة. هذه التفاصيل لم تكن مهمة بحد ذاتها، لكنها التصقت بالحدث المؤثر، وبقيت حيّة معك.
هذا هو محور البحث الجديد: كيف يمكن للحظات العاطفية أن "تعود بالزمن" لتلتقط تلك التفاصيل الصغيرة، وتثبّتها في ذاكرتنا.
كيف يختار الدماغ ما يستحق البقاء؟
شملت الدراسة نحو 650 شخصًا، واستخدم الباحثون تقنيات الذكاء الاصطناعي لفهم كيف يقرر الدماغ ما يحتفظ به، ووجد الباحثون أن الدماغ لا يتعامل مع الذكريات التي تسبق الحدث المؤثر وتلك التي تليه بنفس الطريقة:
- الذكريات التي تأتي بعد الحدث الكبير تلتصق بالذاكرة بسهولة، لأن الدماغ يدخل في حالة تأهب لما سيحدث لاحقًا، فيسجل ما يليه بتركيز أكبر.
- الذكريات التي تسبق الحدث الكبير لا تُحفظ إلا إذا كان هناك رابط بينها وبينه، كإحساس مشابه أو صورة متكررة. قد يكون هذا الرابط لونًا رأيته قبل سماع الخبر ثم رأيته مرة أخرى خلاله، أو شعورًا معينًا، أو حتى فكرة كانت تدور في رأسك. بكلمات أخرى، يبحث الدماغ عن خيوط مشتركة ليقرر: "هل هذه اللحظة تستحق أن تبقى أم لا؟".
يقول ليو لين، المؤلف الأول للدراسة: "لأول مرة، نظهر دليلاً واضحًا على أن الدماغ يُنقذ الذكريات الضعيفة بطريقة متدرجة، مسترشدًا بمدى تشابهها مع الأحداث العاطفية".
لكل قاعدة استثناء: فوضى المشاعر تمحو كل شيء
المثير أن وجود أكثر من حدث عاطفي قوي في وقت متقارب قد يُربك الدماغ. عندها، تتنافس الذكريات بدلًا من أن يُعزّز بعضها بعضًا، وقد تختفي جميعها، وكأن الذاكرة تملك مساحة محدودة لتلك المشاعر العاطفية الفائضة.
ماذا يعني هذا في حياتنا اليومية؟
هذا الاكتشاف لا يقتصر على فضول علمي، بل يمكن أن ينعكس علينا عمليًا، على سبيل المثال:
- في التعليم: تخيل أن نتمكن من ربط المعلومات الدراسية المملة بقصة مؤثرة أو نشاط ممتع قد يساعد الطلاب على تذكر المفاهيم والمعادلات المعقدة بسهولة أكبر.
- في العلاج النفسي: يمكن استغلال هذه المعرفة لمساعدة كبار السن على استرجاع ذكريات تلاشت، أو على العكس، لمنع ترسيخ الذكريات الصادمة لدى من يعانون من اضطرابات نفسية، خاصةً اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، مما يخفف من وقعها عليهم.
في النهاية، ما تخبرنا به هذه الدراسة أن ذاكرتنا ليست مجرد سجل للماضي، بل هي أقرب إلى قصة يحررها دماغك باستمرار، يضيف ويحذف ويقرر ما يستحق البقاء؛ ليصنع لنا هويتنا من خلال اللحظات التي يختارها بعناية فائقة.
للإجابة على كل استفساراتكم، يمكنكم التواصل مع فريق الطبي المختص من أي مكان!