لم تعد تقاس درجة تقدم الأمم بثقافتها العلمية والأدبية وبثقافة الكمبيوتر والانترنت وثقافة الموبايلات والرسائل القصيرة، فحسب، بل هناك ثقافات كثيرة بدأت في الآونة الأخيرة تثير الاهتمام وتوثر ايجابا في حياة الشعوب والأفراد، من أبرزها ثقافة الغذاء الصحي. وهذا يستدعي العلم بماهية غذائك وشرابك وماهية بدنك، وعدم تعريضه الى التهلكة بتناول الأطعمة والأشربة التي تجلب الامراض، وتعجل بشيخوخته، كتناول الأطعمة الدسمة والحلويات والخمور والتدخين، مع قلة الحركة والنشاط.
وقد يجهل البعض منا ان الغذاء بكل أشكاله وألوانه هو ماده ضرورية للانسان في اي موقع كان، بل وعلم ايضا له جذوره الضاربة في أعماق التاريخ. والغذاء الذي وجد على هذه البسيطة، قبل ان يخلق الانسان الذي عمل جاهداً كي يجد الأنسب منه، ليسد به رمقه، ويواصل عيشه وحياته اليومية. ومع التطور الفكري للانسان، الذي (نبش وبحش) بالفطرة اولا وبالبحث، ثانياً، حتى اصبح لدينا ما يسمى بالعلوم الغذائية.
ان ثقافة الجدات والأمهات الغذائية في السابق، رغم بساطتها، كانت توفر للأبناء الحياة السليمة والصحية، وتؤمن لهم البناء الجسدي الممتاز، لأن تنوع المائدة، حينذاك، كان يؤمن للجسم حاجاته.
ومع تسارع الزمن، وتطور الحياة، أصبحت الأجساد منهكة والأمراض منتشرة لغياب الحد الأدنى من الثقافة الغذائية من قاموس بعض أمهات اليوم، والأبناء الذين يركضون وراء الوجبات السريعة والشيبس، وانتشار الأغذية الجينية، والبلاستيكية والمواد الكيمياوية التي تدس في غذائنا، والتلوث الذي يضرب أطنابه في مائنا وغذائنا، جعلنا اليوم مهددين اكثر من اي وقت مضى بالخطر، الذي نحتاج الى ان نتسلح لأجله بالعلم والثقافة الغذائية.
وما أحوجنا اليوم الى تلك المأكولات القديمة التي جعلت أجدادنا وآباءنا لا يعرفون الطبيب ولا الدواء. وكانت عزيمة رجل في السبعين تضاهي قوة أربعة رجال في الخامسة والعشرين من هذا الجيل.
ولمن ينكرون علينا أهمية الثقافة الغذائية في حياتنا اليومية، نؤكد من جديد، بل ونطالب، بأن تكون مادة دراسية مهمة في مناهج طلابنا، منذ الصفوف الأولى، كي يدرك الطلاب خطر الملونات والمضافات الغذائية، والبطاطا المقلية التي باتت وجبته اليومية، بل ونزيد من مطالبنا بأن تولي الحكومات جل اهتمامها لنشر الثقافة الغذائية، ومحو أمية الأمهات والآباء في هذا المجال.
كما نطالب بأن تتوفر لدى مزارعنا وبائعنا وصاحب المخبز والمطعم، ثقافة غذائية صحيحة ومخافة الله حتى لا نغش من اجل حفنة من النقود.
معتقدات غذائية متوارثة
وهناك الكثير من الثقافات الغذائية المتوارثة، التي تبدو وكأنها حقائق، وتعامل معها معظم الناس وهكذا.. وكثيرا ما نجابه بالنقد والصراخ والاحتجاجات، بل وقد يخرج البعض من قاعة المحاضرات والندوات احتجاجا على ما نكشفه من زيف هذه الأقاويل والادعاءات المتوارثة، التي تتعارض مع ما ترسخ في أدمغتهم عن الغذاء الصحي والبدني. ومن هذه المعتقدات المتناقلة والمتوارثة نذكر الآتي:
مريض السكري والعسل:
قال تعالى في سورة النحل “واوحى ربك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات”، اي كلي من كل الازهار والثمار التي تشتهينها من الحلو والمر والحامض، فإن الله بقدرته يحيلها الى عسل، وليس على النحل إلا طاعة أوامر الخالق، بأن يأكل من كل الثمرات، ولا ينتقي السدر او المليسا او غيرها من الأزهار، كما يدعي بائعو العسل، بأن هذا العسل نوعه سدر ومليسا وهكذا. ثم قال تعالى: “يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”.
إن الله تعالى لم يذكر انه شفاء لكل الناس ولكل داء. وفي كل حال كان العسل شفاء للبعض من بعض الأمراض، ووصف بأن فيه شفاء وليس الشفاء كله، كما يدعي معظم من يداوون بالطب البديل ويصفون العسل لمعظم الأمراض، وخصوصا لمريض السكري، متجاهلين ان العسل عبارة عن مادة حلوة لزجة تتكون اصلا من حوالي 40% جلوكوز و 35% فركتوز. أليست هذه سكريات تحتاج لهرمون الانسولين لتمثيلها وهضمها؟ صحيح ان سكر الفركتوز الأحادي لا يحتاج الا للقليل من الانسولين، ولكن يجب ان لا ننسى النسبة غير المستهان بها من الجلوكوز .
وقد أدرج العسل عالميا ضمن لائحة المأكولات الممنوعة لمريض السكري، وهذا ما اتفق عليه الأطباء ومستشارو الغذاء الصحي والتغذية. وكثيراً ما يبدأ من يكتشفون مرض السكري لديهم بالمداواة بالعسل بناء على توصية بعض الأهل والأقارب والجيران والعطارين والمتطفلين على الطب البديل، ليكتشف المريض بعد وقت قليل الارتفاع المفاجئ وغير المعقول بنسبة السكر في الدم بدلاً من ان ينخفض وتتحسن حالته.
هل حقاً الحليب مصدر جيد للكالسيوم؟
يحتوي جسم الانسان على حوالي كيلوغرام من الكالسيوم، وتتركز النسبة الكبرى منه (نحو 99%) في العظام والأسنان، حيث توفر لهما القوة والصلابة.
ونقص هذه المادة في جسم الإنسان قد يؤدي للإصابة بما يسمى بهشاشة او وهن العظام. وهذا المرض الصامت القديم كان أول من اشتكى منه سيدنا زكريا عليه السلام، فقد قال تعالى على لسان عبده زكريا عليه السلام: “قال رب اني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم اكن بدعائك ربي شقيا”. ان مبدأ الوقاية خير من العلاج، وخصوصا في مثل هذا المرض، لذا لا بد من الحرص على انتقاء الأغذية، بل وحتى تناول بعض الأدوية للحفاظ على مستويات جيدة من الكالسيوم في الدم ودخول مرحلة ما قبل الشيخوخة باحتياط كالسيوم ممتاز .
تقدر حاجة الجسم من الكالسيوم بنحو 1000 ملغم للبالغين، ونحو 1500 ملغم في حالة الحمل والرضاعة، حيث تعتبر هذه النسبة كبيرة، لا يمكن للحليب، كما يشاع ان يسدها، ولا لأي مصد غذائي آخر. وهنا لا بد من اللجوء لتناول الكالسيوم كمستحضر دوائي (مكمل غذائي). وبما أن الكالسيوم يذوب بسرعة في الحوامض، فالأفضل تناوله مع عصير الليمون، لأنه يذوب ويمتص في الوسط الحامضي افضل من الوسط القاعدي.
أما ما يشاع من ان الحليب مصدر جيد للكالسيوم، فهذا ادعاء بعيد عن الحقيقة تتبناه شركات تصنيع وتعليب وتسويق الحليب العملاقة، التي تقدر موازناتها بموازنة كبرى شركات بيع الأسلحة والذخائر.
والحقائق التالية كفيلة بأن تفند مثل هذه الادعاءات:
من المعروف ان كل 100 مل من الحليب تحتوي على حوالي 120 ملغم كالسيوم، بمعنى ان اللتر الواحد يحتوي على نحو 1200 ملغم من الكالسيوم. وبما انه لا يمتص سوى 20% من كالسيوم الحليب، فهذا يعني انك بحاجة لحوالي خمسة لترات حليب يوميا، وهذا ما لا يمكن تناوله يوميا.
من المعروف ان الكالسيوم لا يذوب في الوسط القلوي وقليل الحموضة. وكونه غير ذواب فهو لا يمتص كاملا، لأن نسبة الحموضة في الأمعاء (مكان امتصاص الكالسيوم) عادة ما تكون منخفضة وتميل للقلوية.
إن معظم الشعوب العربية والعالمية، باستثناء الشعب القوقازي، يعانون منذ آلاف السنين من طفرة مجهولة السبب أدت الى نقص أو عدم وجود كميات كافية من انزيم اللاكتيز الضروري لهضم الحليب وامتصاصه، وخصوصا بعد سنتين من العمر. وكون هذا الانزيم ضرورياً لهضم الحليب، وخصوصا سكره (لاكتوز) وهو لا يوجد، أو يوجد بكميات ضئيلة في الأمعاء، فإن هضم الحليب لا يتم بشكله الطبيعي الذي يسمح بانحلال الكالسيوم منه وامتصاصه، حيث يؤدي شرب الحليب عند معظمنا للشعور بالمغص والغازات وقرقعة البطن نتيجة سوء هضمه. وللمساعدة في التغلب على مثل هذه الظاهرة فقد طرح مؤخرا في الأسواق حبوب (لاكتيد) توضع مع كوب الحليب، ويشرب بعد ذوبانها، أو يمكن اضافة ملعقة صغيرة من مسحوق الكاكاو لكل كوب حليب، قبل الشرب للتغلب على ظاهرة نقص انزيم اللاكتيز، وما ينجم عن ذلك من اضطرابات هضمية. وهذا يتماشى مع قوله تعالى: “والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين لمن اراد ان يتم الرضاعة”، أي ان الحليب لا يفيدك كثيرا ايها المستهلك بعد سن الفطام، والذي يقدر بسنتين. والغريب أن الانسان هو الكائن الوحيد من الثدييات، الذي يصر على تناول الحليب بعد سن الفطام، علماً أنه من المفروض ان يترك حليب البقرة لعجلها، الذي يزن عشرة أضعاف الطفل. وكذلك الامر مع حليب الناقة، الذي تمنحه لوليدها، فلماذا لا يترك الانسان الحليب لأصحابه ويكتفي بالحليب حتى سن الفطام أم ان شركات الدعاية والإعلان والأساطير المتوارثة والمحبوكة عن الحليب قد خلطت الحابل بالنابل وأقنعت بني البشر ان الحليب هو افضل ما يمكن ان نتناوله صباحا ومساء بغض النظر عن العمر والمرض؟ علما بأن الحليب متهم بالتسبب بالأزمات الصدرية وضيق التنفس، لأنه يزيد لزوجة افرازات القصبات الهوائية والمسالك التنفسية.
ان الحليب، وخصوصا كامل الدسم، يحتوي على نسبة لا بأس بها من الدهون المشبعة، التي بدورها تتحد مع الكالسيوم في الأجواء القلوية لتكوّن ما يسمى بصابونة كلسية صعبة الامتصاص والانحلال، لذا نلاحظ ان معظم اختصاصيي التغذية، وحتى شركات الحليب، بدأت تنصح بتناول الحليب خالي أو قليل الدسم لضمان نسبة امتصاص ولو قليلة مما يحتويه من الكالسيوم .
خلاصة القول: لا تعتمدوا على الحليب، كمصدر جيد للكالسيوم، ولا تلتفتوا إلى ادعاءات شركات الحليب العملاقة، التي تصرف الملايين، لترويج هذا الادعاء، وملايين الملايين على الأبحاث لاكتشاف ادوية وحقن كهرمونات النمو، كالتي تعطى للبقر ليدر أضعاف مضاعفة من كميات الحليب المعتادة. وقد ضبطت اخيرا في الأسواق الأمريكية حقن تعطى للبقر لجعلها قادرة على إدرار الحليب مدة 12 شهراً في السنة.
إن إضرار مثل هذه الأدوية على الإنسان كبيرة جداً، اذا ما قورنت بالفوائد التي يمكن ان يحصل عليها شاربو الحليب.
وبما ان الكالسيوم لا يوجد في المصادر النباتية بشكل منحل، فهو موجود بشكل فايتيت او اوكسالات ناهيك عن الألياف الموجودة في المصادر النباتية التي تعيق امتصاصه، مما يجعل المصادر النباتية فقيرة بالكالسيوم الممتص بعد تناولها. لذا لا بد من تناول حاجتك من الكالسيوم، كمكملات غذائية بشكلها الصيدلاني (حبوب او شراب) ويفضل ان تحتوي على كميات من فيتامين (سي) الذي يسهل ويزيد من كميات الكالسيوم التي يمكن ان تمتص من الأمعاء.