أزمة منتصف العمر تحدث تقريباً بين الأربعين والخمسين من العمر، وقد تحدث قبل ذلك أو بعد ذلك في بعض الرجال، فوقتها ليس محدداً تماماً. وفي هذه الأزمة يقف الرجل ويجري عملية محاسبة لنفسه عن ماضيه وحاضره ومستقبله، وقد تبدو له سنوات عمره الماضية وكأنها كابوس ثقيل، فهو غير راض عما تحقق فيها، ويشعر أنه فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أحلامه على كل المستويات وأنه كان يجري وراء سراب، وبحسابات الحاضر هو أيضاً خاسر، لأنه ضيع عمره هباء ولم يعد يملك شيئاً ذا قيمة فقد أنهكت قواه وذهب شبابه وضحى بفرص كثيرة من أجل استقرار أسرته، ومع هذا لا يقدر أحد تضحياته، ولذلك يشعر بأن الأرض تهتز تحت قدميه. حتى المبادئ والقيم التي عاش يعلي من قيمتها أصبحت تبدو الآن شيئاً باهتاً، فلم يعد يرى لها القيمة نفسها، ولم يعد متحمساً لشيء ولا مهتماً بأي شيء ذي قيمة في المستقبل، فقد خارت قواه وانطفأ حماسه واكتشف أن الناس لا يستحقون التضحية من أجلهم، وأن المبادئ التي عاش لها لم يعد لها قيمة في هذه الحياة، وأن رفاق الطريق قد تغيروا وأصبحوا يبحثون عن مصالحهم ومكاسبهم بأي شكل وتخلوا عن كل مبادئهم وشعاراتهم التي رفعوها إبان فترة شبابهم.
أزمة منتصف العمر عند الرجال
أزمة منتصف العمر ليست مرضاً
أزمة منتصف العمر ليست في حد ذاتها مرضاً، ولكن مضاعفاتها يمكن أن تكون مرضاً كالقلق والاكتئاب والأعراض النفس-جسمية.
أحياناً يشعر الرجل أنه يريد أن يبدأ صفحة جديدة من حياته، ولكن ذلك يستلزم الابتعاد عن الزوجة والأولاد والتحرر من قيودهم، وبالفعل بدأ يتغيب كثيراً عن المنزل ويرتبط بمجموعة من الأصدقاء الجدد الأصغر سناً، فتحوا أمامه أبواباً متعددة للمتعة وقضاء الأوقات، وقد أحس معهم (ومعهن) أن شبابه قد عاد، وبدأ يهتم بنفسه، ويبالغ في ذلك الاهتمام حتى اتهمته زوجته في يوم من الأيام بأنه متصابي. نعم هو يشعر أنه يعود مراهقاً من جديد، ويفرح أحياناً بهذا الشعور، ولكنه يفزع حين يشعر أن الأمر ربما يخرج عن سيطرته، فقد أصبح ضعيفاً أمام الجنس الآخر أكثر من ذي قبل، وأصبح يتمنى أشياء لا تناسب سنه. إنه يشعر أنه ظمآن وضعيف أمام أي قطرة ماء تلوح له في الأفق، خصوصاً أن الساقي الأصلي (الزوجة) أصبحت تضن عليه بقطرة الود والحنان، ولولا بقية من دين وحياء لسقط في كثير من الاختبارات والإغراءات التي يمر بها كل يوم.
وأحياناً يشعر بالاشمئزاز من نفسه فيهمل مظهره ويفضل العزلة بعيداً عن الناس ويفقد الاهتمام بكل ما حوله.
وفي لحظات أخرى يميل إلى الزهد في الحياة فيقبل على الصلاة والصيام وقراءة القرآن فيستعيد صفاءه وتوازنه من جديد ويرضى بما قسمه الله له، ويعترف بأنه فقد أشياء كثيرة كرجل شاب، ولكنه اكتسب أشياء أخرى كأب وكقيادي في عمله. ثم تدور الأيام دورتها ويفكر مرة أخرى في اللحاق بالفرص الأخيرة للحياة قبل أن يغادره شبابه وتألقه ووسامته ويلقى في غياهب النسيان والإهمال، فيفكر في الزواج من فتاة صغيرة تعيد إليه شبابه ويبدأ معها حياة جديدة، ولكنه يعود فيتذكر أبناءه وبناته وما ينتظرهم من معاناة حين تتهدم الأسرة بسببه .
هذه هي بعض معالم أزمة منتصف العمر التي يمر بها كثير من الرجال ، ولكن يدركها بأبعادها بعضهم ممن لديه درجة عالية من الوعي والإحساس .
وبعض الرجال يتقبل الأمر بسهولة، وتمر هذه المرحلة بلا مشاكل خصوصاً في الرجال الناضجين، حيث يدرك أنه ربما يكون قد خسر بعض شبابه ووسامته وتألقه، ولكنه كسب مساحات كبيرة كأب حنون وموظف ناجح أو رائد في مجال عمله واهتمامه .
وفريق ثان من الرجال يشعرون بآلام الأزمة ولكنهم يتحملون ويقاومون في صمت، ويحاولون إخفاء الأزمة عمن حولهم، ولذلك تظهر عليهم بعض الأعراض النفسجسمية كآلام وتقلصات البطن أو صعوبة التنفس أو آلام المفاصل أو الصداع المزمن أو ارتفاع ضغط الدم .
وفريق رابع يفضلون الإنطواء والعزلة بعيداً عن تيار الحياة ويمارسون واجباتهم الوظيفية والعائلية في أدنى مستوى ممكن . وفريق خامس يزهد في الحياة وينصرف إلى العبادة ويتسامى فوق رغبات البشر ويشعر بالصفاء والطمأنينة والأنس بالله.
وفريق سادس يستغرق في العمل والنشاط والنجاح في مجالات كثيرة على أمل التعويض عن الإحساس بالإحباط والفشل في الحياة الماضية .
وفريق سابع يلجأ إلى التصابي والتصرف كمراهق في ملابسه وسلوكه، وربما يستعجل الواحد منهم الفرصة التي يعتبرها أخيرة (نظراً لقرب غروب شمس الشباب) فيقع في المحظور. أما الفريق الثامن من أولئك الذين يعانون أزمة منتصف العمر فإنهم يتحولون إلى المرض النفسي كالقلق أو الاكتئاب أو الهستيريا أو توهم المرض أو الرهاب أو أي اضطراب نفسي آخر. وحين يصاب أحدهم بالاكتئاب فإنه ربما يكون من نوع الاكتئاب النعاب (الزنان – الشكّاء) فهو لا يكف عن الشكوى، ولا يستجيب للعلاج، وكأن اكتئابه وشكواه المستمرين يحققان له شيئاً ما، ربما يكونان حماية له من التفكير في أشياء أكثر عمقاً وأكثر تهديداً.
تجارب من الواقع لأزمة منتصف العمر
المهندس فوزي رجل عصامي أسس مجموعة من الشركات الناجحة وهو متزوج ولديه ولدان وبنتا، وقد بلغ من العمر 45 سنة. كان معروفاً عنه جديته وصرامته واهتمامه الشديد بعمله وأسرته، ولكن لوحظ في الفترة الأخيرة تغيرات طرأت عليه حيث أصبح يتردد على مسارح القاهرة ويسهر لوقت متأخر من الليل، ويقضي بعض الليالي مع مجموعة من الأصدقاء الجدد يجلسون في شقة أحدهم أو على المقهى، وأصبح يدخن السجائر في بعض الأوقات ويتعاطى الخمور في بعض المناسبات وهو الذي كان لا يشرب في حياته غير الشاي والقهوة.
الأغرب من ذلك أنه غير طاقم السكرتارية في مكتبه، الذي كان يتكون من الأستاذ رياض واثنين من المعاونين الأكفاء، واستبدلهم بعدد من السكرتيرات اللائي اختارهن بنفسه بعناية شديدة، ولم يستمع لنصائح واعتراضات المقربين منه بأن طاقم السكرتارية الأصلي كان يفهم ظروف كل الشركات بشكل ممتاز، فقد بدأ معه من الصفر، وكانت حجته في ذلك أن الزمن تغير وأن طاقم السكرتارية الجديد يتواكب مع الوضع الجديد للشركة ومع ظروف السوق التي تحتاج للمظهر الجذاب.
ومرت شهور عدة ولاحظ العاملون في الشركة شيئاً ما بينه وبين السكرتيرة، وتأكدت هذه الظنون لديهم حين وجدوه يصبغ شعره الأبيض ويذهب إلى مركز لزراعة الشعر كي يخفي صلعته الخلفية، كما أن ألوان وموديلات ملابسه قد تغيرت بشكل رآه من حوله غير مناسب لشخصيته الجادة ولسنه، وحين كان يلمح له أحد على استحياء كان يقول: "من حقي أن أعيش حياتي، لقد حرمت من أشياء كثيرة في شبابي، وها قد حان الوقت للإستمتاع، ويكفي ما ضاع من عمري". وقد لاحظت زوجته هذه التغيرات مبكراً وأصبحت تشكو من إهماله لبيته وأولاده، ثم ما لبثت أن سمعت عن علاقات متعددة لزوجها بفتيات في عمر ابنته، وأنه يشتري لهن هدايا ثمينة رغم أنه لم يحضر لها هدايا منذ تزوجها، وكان يتعلل بالانشغال بالعمل ، كما لاحظت استعماله لـ "برفانات" من نوع خاص كان يأتي له بها أصدقاؤه من باريس. باختصار لقد حدث انقلاب في حياة المهندس فوزي ولا أحد يعرف كيف تغير هذا الرجل العصامي الجاد المحترم إلى ما هو عليه؟ وكيف بدت عليه أعراض مراهقة متأخرة بهذا الشكل؟.
أما الدكتور فاضل، وهو أستاذ جامعي متميز في أحد فروع الطب الدقيقة، فقد بدا عليه في الفترة الأخيرة أنه مهموم بشيء ما، وأنه شارد وسرحان معظم الوقت، ولم يعد حماسه للعمل كما كان، ودائماً يردد كلمات توحي بعدم جدوى ما يفعله. وحين يجلس مع أصدقائه المقربين كان يسفه من نجاحاته، ويتحدث كثيراً عن أخطائه في صباه وشبابه ويتساءل عن معنى وجوده، بل وعن معنى وجود الحياة ذاتها، وينظر بحيرة وتشكك حين يكلمه أحد عن المستقبل العلمي الذي ينتظره بناء على جهوده العلمية السابقة، وقد نصحه أحد أصدقائه بزيارة طبيب نفسي، ففعل، ولكن الطبيب قرر أنه غير مريض ولكنه يقف في مفترق طرق ولديه عدد من التساؤلات الوجودية الملحة عن معنى وجوده وعن قيمة نجاحه وعن ماضيه وما حدث فيه وعن مستقبله وما ينتظره. باختصار هو يقف عند هذا المفترق ويجري عملية جرد للماضي والحاضر والمستقبل، ولا يجد معنى في كل هذا، وقد أصبح يميل إلى العزلة، ويزهد فيما كان يصبو إليه من قبل.
أما الأستاذ صلاح، فقد كان معروفاً عنه ولعه بكل متع الحياة وبهجتها، ولم يكن يرى إلا ضاحكاً مازحاً. وكانت له شقاوات كثيرة يعرفها عنه زملاؤه والمقربون منه، وفجأة بدأ يتغير فأطلق لحيته وأصبح يحرص على الصلاة في أوقاتها وذهب لأداء العمرة في شهر رمضان وعاد وقد بدت عليه آثار الروحانية الصافية الجميلة، وأصبح مشغولاً بالكثير من الأنشطة الخيرية في مسجد الحي وفي العمل وفي بعض الجمعيات الخيرية، وظهرت على وجهه علامات الرضى والسكينة والإيمان.
أما الأستاذ جميل، وهو صحفي معروف، فقد لوحظ عليه انكبابه الشديد على العمل في الشهور الأخيرة بلا مبرر واضح، فهو يقضي النهار كله وجزء كبير من الليل في مقر الصحيفة، وأصدر أكثر من كتاب في هذه الفترة القصيرة، ولديه عدد من مشروعات التطوير الصحفية، وهو يتحدث بسرعة كأنه في عجلة من أمره وكأنه يسابق الزمن، وشكت زوجته من إهماله لها وتحول مشاعره عنها وحتى عن الأولاد، وكأنه نسي أن له أسرة. وأيضاً لم يعد يحضر اللقاء اليومي لأصدقائه على إحدى مقاهي وسط البلد كما اعتاد منذ سنوات. وما أن أكمل عامه الأول بعد هذا التغير حتى أصيب بحالة من الاكتئاب تبعها ذبحة في القلب.
الحل والعلاج
قبل وقوع الأزمة
• نستعد لمواجهة هذه الأزمة قبل حدوثها وذلك بتحقيق إنجازات حقيقية راسخة ومتراكمة في مراحل الشباب، وأن لا نضيع سنوات الإنتاج هباء، وأن يكون في حياتنا توازن بين عطائنا لأنفسنا وعطائنا للآخرين حتى لا نكتشف في لحظة أننا ضيعنا عمرنا من أجل إنسان لم يقدر هذا العطاء بل تنكر له وجحده في غمضة عين.
• أن يكون لدينا أهداف نحاول تحقيقها وأهداف بديلة نتوجه إليها في حالة إخفاقنا في تحقيق الأهداف الأولى، فالبدائل تقي الإنسان من الوقوف في الطرق المسدودة. والواقع يقول إن الحياة مليئة بالخيارات، وإذا انسد طريق فهناك ألف طريق آخر يمكن أن يفتح، وإذا فقد الرجل بعض شبابه أو فقد فرصاً في حياته الماضية فقد اكتسب الكثير من النضج والخبرة والوعي والقدرة على القيادة في العمل وفي الأسرة. وإذا كان قد فقد هويته كشاب وسيم ذي شعر أسمر فقد اكتسب رجولة ناضجة وتأثيراً أكبر في الحياة .
• نحرص على أن تكون لحياتنا معنى يتجاوز حدود ذاتنا.. هذا المعنى الذي يربطنا بالخلود ويجعل حياتنا الدنيا عبارة عن حلقة من حلقات وجودنا الممتد في الدنيا والآخرة ، وبالتالي نتقبل كل مراحل عمرنا برضى وسعادة .
• وجود علاقة قوية بالله تحمينا من تقلبات الأيام وجحود البشر.
إذا وقعت الأزمة فعلاً
فإن علماء النفس ينصحون الرجل بأن يتحدث عن مشاعره لقريب أو صديق يثق في أمانته، فإن ذلك التنفيس يسهل عليه مرور الأزمة بسلام، وإذا لم يجد فرصة لذلك فلا مانع من اللجوء لأحد علماء الدين أو أحد المتخصصين في العلاج النفسي، فهؤلاء يمكن أن يقدموا المشورة والمساندة.
وبعض الرجال ربما يحتاجون لعدد من الجلسات النفسية الفردية أو الجماعية لمساعدتهم على تفهم جوانب الأزمة والتعامل معها بفاعلية أكثر والخروج منها بسلام.
أما الأسرة فعليها واجب المساعدة للأب حين يمر بهذه الأزمة، وذلك من خلال سماع الشكوى وتفهمها وتقديرها، وربما تحتاج الزوجة بشكل خاص تفهم بعض التغيرات التي حدثت أو تحدث لزوجها، وربما تحتاج للتعامل بقدر أكبر من السماح تجاه بعض أخطائه وتجاوزاته في هذه المرحلة، خصوصاً إذا كان قد بدت عليه أعراض ما يسمى بالمراهقة الثانية ووقع أثناءها في بعض الأخطاء أو صدرت منه بعض الزلات أو تورط في زواج ثان أو علاقة أخرى.
أما على مستوى المجتمع فنحن نحتاج إلى نشر الوعي بهذه الحالة الشائكة والتي يعاني منها الكثيرون وأحياناً تؤدي إلى تفكك الأسر وضياع الأبناء. وأخيراً وليس آخراً علينا أن نتذكر أننا نمر في عمرنا بمراحل قدرها الله سبحانه وتعالى وهيأنا لها ولكل مرحلة مزاياها ومشاكلها، وعلينا أن نتقبل ذلك راضين شاكرين، وأن لا نأسى على ما فاتنا فكل شيء يسير بتقدير من الله، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن مردنا في النهاية إلى الله، وأننا نوزن عن أعمالنا الصالحة وقلوبنا المحبة للخير ولا نوزن بأموالنا ووظائفنا أو جمال وجوهنا وأجسادنا "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم". وفى القرآن الكريم إشارة رائعة إلى تلك المرحلة من العمر وكيفية التعامل معها بشكل متوازن، يقول الله تعالى: ".... حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التى أنعمت علىّ وعلى والدىّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإنى من المسلمين، أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون" (الأحقاف 15 و 16)، ففي هذا المشهد نرى من بلغ الأربعين يعيش حالة وعي ممتدة ومتعددة المستويات، فهو يستشعر وجود الله ويشكره على نعمه التى أعطاها إياه فى السنين الماضية ويذكر والديه كجيل سابق (وكيف أنعم الله عليهم) ويذكر ذريته كجيل لاحق (يسأل له الصلاح)، ويتذكر نفسه فى وسط الجيلين فيعلن توبته (كي يتخفف من أعباء الأخطاء الماضية) ويؤكد هويته (كي ترسخ أقدامه فى الوجود) ويسأل الله أن يوفقه للعمل الصالح الذى يكمل مسيرة الوالدين (السابقين) ويكون قدوة للأبناء (اللاحقين)، في سلسلة نقية ونظيفة وصالحة يطمئن الله كل حلقاتها بتقبل أحسن ماعملوا والتجاوز عن السيئات والزلات، وأخيرا الوعد بالجنة.